فصل: الخبر عن واقعة طريف وتمحيص المسلمين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر عن حصار تلمسان

وتغلب السلطان أبي الحسن عليها وانقراض بني عبد الواد بمهلك أبي تاشفين لما تغلب السلطان على أخيه وحسم علة انتزائه ومنازعته وسد ثغور المغرب وعظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية وارتجاع جبل الفتح من أيديهم بعد أن أقام في ملكتهم نحواً من عشرين سنة فرغ لعدوه وأجمع على غزو تلمسان‏.‏ووفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح والأخذ بحجزة أبي تاشفين على الثغور‏.‏وأوفد السلطان رسله إلى أبي تاشفين شفعاً وأن يتخلى عن عمل الموحدين جملة وينزل لهم عن تدلس ويرجع إلى تخم أعمالهم منذ أول الأمر ولو عامئذ ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك ويقدروه حق قدره‏.‏واستنكف أبو تاشفين من ذلك ولج وأغلظ للرسل في القول وأفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبدى في الرد عليهم والنيل من مرسلهم فانقلبوا بما أحفظه فانبعثت عزائم السلطان للصعود إليهم‏.‏وعسكر بساحة البلد الجديد وبعث وزراءه إلى قاصية البلاد المراكشية لحشد القبائل والعساكر‏.‏ثم تعجل فاعترض جنوده وأزاح عللهم وعبأ مواكبه‏.‏وسار في التعبئة وفصل بمعسكره من فاس أواسط خمس وثلاثين‏.‏وسار يجر الشوك والمدد من أمم المغرب وجنوده‏.‏ ومر بوجدة فجمر الكتائب لحصارها‏.‏ثم مر بندرومة فقاتلها بعض يوم واقتحمها فقتل حاميتها واستولى عليها آخر سنة خمس‏.‏ثم سار على تعبئته حتى أناخ على تلمسان وبلغه الخبر بتغلب عساكره على وجدة سنة ست وثلاثين فأوعز إليهم بتخريب أسوارها فأصرعوها بالأرض‏.‏وتوافت إليه أمداد النواحي وحشودها وربض على فريسته‏.‏ووفدت عليه قبائل مغراوة وبني توجين فأتوه طاعتهم‏.‏ثم سرح عساكره إلى الجهات فتغلب على وهران وهنين ثم على مليانة وتنس والجزائر كل ذلك سنة ست وثلاثين‏.‏ ونزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من عمله والمتاخم كان لعمل الموحدين والقائم حصار بجاية بعد نكبة موسى بن علي فلقاه مبرة وتكريماً ورفع مجلسه في بساطه ونظمه في طبقات وزرائه وجلسائه‏.‏وعقد على فتح البلاد الشرقية ليحيى بن سليمان العسكري كبير بني عسكر بن محمد وشيخ بني مرين وصاحب شوراهم بمجلس السلطان والمخصوص بالصهر من السلطان وعقد له على ابنته فسار في الأولوية والجنود وطوع ضاحية الشرق وقبائله وافتتح أمصاره حتى انتهى إلى المدية‏.‏ونظم لبلاد في طاعة السلطان وأحشد مقاتليها إلى معسكره فلحقوا به وكاثروا جنوده‏.‏واستعمل السلطان على وانشريش وعمل الحشم من بني توجين‏.‏وعقد لسعد بن سلامة بن علي على بني يدللتن‏.‏ وجعل الوالي بالقلعة إلى نظره‏.‏وكان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعاً عن أبي تاشفين لمكان أخيه قريعه محمد من الدولة‏.‏ واستعمل السلطان أيضاً على شلف وسائر أعمال المغرب الأوسط‏.‏واختط السلطان بقرب تلمسان البلد الجديد لسكناه‏.‏ونزل عساكره وسماه المنصورة‏.‏وأدار على البلد المخروب سياجاً من السور ونطاقاً من الخندق‏.‏ونصب المجانيق والآلات من وراء خندقه‏.‏وشيد قبالة كل برج من أبراج البلد برجاً على ساقه خندقه ينضخ رماته بالنبل رملهم وشغلوهم بأنفسهم حتى شيدوا برجاً آخر أقرب منه وترتفع شرفاته فوق خندقهم‏.‏ولم يزل يتقرب بوضع الأبراج من حد إلى ما بعده حتى اختطها من قرب على ساقة خندقهم‏.‏وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعاليها وقربت المجانيق إلى رجمها ودكها فنالت من ذلك فوق الغاية‏.‏ واشتد الحرب وضاق نطاق الحصار‏.‏ وكان السلطان يصابحهم كل يوم بالبكور والطواف على البلد من جميع جهاته لتفقد المقاتلة في مراكزهم وربما ينفرد في تطوافه بعض الأيام عن حاشيته فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرة‏.‏وصفوا جيوشهم من وراء السور مما يلي الجبل المطل على البلد حتى إذا حاذاه السلطان في تطوافه فتحوا أبوابهم وأرسلوا عليه عقبان جنودهم فاضطروه إلى سفح الجبل حتى لحق بأوعاره وكان أن ينزل عن فرسه هو ووليه عريف بن يحيى أمير سويد‏.‏ووصل الصائح إلى المعسكر فركب الأميران ابناه أبو عبد الرحمن وأبو مالك في ججوع بني مرين وتهاوت فرسان المعسكر من كل جانب فشمروا جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم‏.‏ثم دفعوهم عنها وحملوهم على هوة الخندق فتطارحوا فيها وترادفوا وهلك بالكظيظ أكثر مما هلك بالقتل‏.‏واستلحم في ذلك اليوم زعماء ملاحمهم مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بني توجين ومحمد بن سلامة بن علي كبير بني يدللتن منهم أيضاً وغيرهم‏.‏ وكان يوماً له ما بعده‏.‏ واعتز بنو مرين عليهم من يومئذ‏.‏ ونذر بنو عبد الواد بالتغلب عليهم واتصلت الحرب عامين‏.‏ ثم اقتحمها السلطان غلاباً لسبع وعشرين من رمضان سنة سبع وثلاثين‏.‏ ووقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصته‏.‏وقاتل هنالك حتى قتل ابناه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن علي ووليه عبد الحق بن عثمان بن محمد من أعياص آل عبد الحق‏.‏نزع إليه من جملة الموحدين كما أشرنا إليه ونستوفي في أخباره‏.‏ فهلك هو وابنه وابن أخيه وأثخنت السلطان أبا تاثسفين الجراحات‏.‏ ووهن لها فتقبض عليه واحتقبه بعض الفرسان إلى السلطان فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب ووارد غمرتها بنفسه فاعترضه وقد غص الطرق بموكبه فأمر به للحين فقتل واحتز رأسه‏.‏وسخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه وتقريعه وذهب مثلا في الغابرين‏.‏واقتحم السلطان بكافة عساكره وتواقع الناسى بباب كشوك لجنوبهم من كظيظ الزحام فهلك منهم أمم‏.‏وانطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرة في أموالهم وحرمهم‏.‏وخلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمة من خواصه وحاشيته‏.‏واستدعى شيوخ الفتيا بالبلد أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام وفاء بحق العلم وأهله فخلصوا إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب فركب لذلك بنفسه وسكن ووزع جنوده وأشياعه عن الرعية وقبض أيديهم عن الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد‏.‏وقد كمل الفتح وعز النصر وشهد ذلك اليوم أبو محمد عبد الله بن تافراكين وافاه رسولاً عن مولانا السلطان أبي يحيى مجدداً للعهد فأعجله السلطان إلى مرسله بالخبر وسابق السابقين‏.‏ودخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح فعظم السرور عند السلطان أبي يحيى بمهلك عدوه والانتقام منه بشارة واعتدها بمساعيه‏.‏ورفع السلطان أبو الحسن القتل عن بني عبد الواد أعدائهم وشفا نفسه بقتل سلطانهم وعفا عنهم وثبتهم في الديوان وفرض لهم العطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم‏.‏وجمع كلمة بني واسين من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين بل وسائر زناتة‏.‏وأنزلهم ببلاد المغرب وسد بكل طائفة منهم ثغراً من أعماله‏.‏وساروا عصباً تحت لوائه فأنزل منهم بقاصية السوس وبلاد غمارة وأجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا في جملته واتسع تطاق ملكه‏.‏ وأصبح ملك زناتة بعد أن كان ملك بني مرين‏.‏ وسلطان العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب‏.‏ والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏

  الخبر عن نكبة الأمير أبي عبد الرحمن

بمتيجة وتقبض السلطان عليه ثم مهلكه آخراً قد قدمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحدين منازلتهم تلمسان مع عساكره وتلوم السلطان أبو الحسن بتاسالة لانتظار مولانا السلطان أبي يحيى‏.‏ ولما نازل تلمسان بعساكره المرة الثانية لم يطالبهم بذلك‏.‏وكان أبو محمد بن تافراكين يتردد إليه وهو بمعسكره من حصار تلمسان مؤدياً حقه مستخبراً مآل عدوهم‏.‏ فلما تغلب على تلمسان أسر إليه سفيرهما أبو محمد بن تافراكين بأن سلطانه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه‏.‏وتشوف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به فارتحل من تلمسان سنة ثمان وثلاثين وعسكر ببسيط متيجة منتظراً وفادة مولانا السلطان أبي يحيى عليه‏.‏وتكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه المتحكم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها وقال له إن لقاء سلطانين لا يتفق إلا في يوم على أحدهما فنكره لذلك السلطان وتقاعد عنه‏.‏وطال مقام السلطان أبي الحسن في الموعد الذي ألقي إليه أبو محمد بن تافراكين واعتل لأشهر من مقامه ومرض بفسطاطه‏.‏ وتحدث أهل المعسكر بمهلكه‏.‏ وكان ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين في ولاية عهده منذ أيام جدهما أبي سعيد‏.‏وكان السلطان قد جعل لهما من أول دولته ألقاب الأمارة وأحوالها من اتخاذ الوزراء والكتاب ووضع العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء واستلحاق الفرسان والانفراد بالمعسكر فكانا من ذلك على ثبج‏.‏ وجعل لهما مع ذلك الجلوس بمقعد فصله والمناوبة لتنفيذ الأوامر السلطانية فكانا لذلك رديفين له في سلطانه‏.‏ولما اشتد وجع السلطان تمشت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين وحزبوا أهل المعسكر لهما أحزاباً وبث كل واحد منهما المال وحمله على القربات‏.‏ وصاروا شيعاً وانقسموا فرقاً‏.‏وهم الأمير أبو عبد الرحمن بالتوثب على الأمر قبل أن يتبين حال السلطان بإغراء وزرائه وبطانته بذلك‏.‏ وتفطن خاصة السلطان لها فأخبروه الخبر وحضوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتسع الخرق فبرز إلى فسطاط جلوسه‏.‏ وتسامع أهل المعسكر به فازدحموا على مجلسه وتقبيل يديه‏.‏ وتقبض على أهل الظنة من العسكر فأودعهم السجن وسخط على الأميرين‏.‏ ورحل الناس من معسكرهما فردهما إلى معسكره‏.‏ ثم رجع إلى فسطاطه فارتاب الأميران لذلك ووجما وطفئت نار فتنتهما‏.‏ وسكن سعي المفسدين عندهما وانتبذ الناس عنهما‏.‏واشتدت روعة الأمير أبي عبد الرحمن وركب من فساطيطه وخاض الليل وأصبح بحلة أولاد زغلى أمراء زغبة الموطنين بأرض حمزة فتقبض عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل‏.‏ورده إلى أبيه فاعتقله بوجدة ورتب العيون لحراسته من حشمه إلى أن قتله بعد ذلك سنة اثنتين وأربعين‏.‏ توثب بالسجان فقتله‏.‏ وأنفذ السلطان حاجبه علال بن محمد فقضى عليه‏.‏ولحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين فأجاروه‏.‏ ورضي السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك وعقد له على ثغور عمله بالأندلس وصرفه إليها وانكفأ إلى تلمسان‏.‏ والله أعلم‏.‏

  الخبر عن خروج ابن هيدور وتلبيسه بأبي عبد الرحمن

لما تقبض السلطان على ابنه أبي عبد الرحمن وأودعه السجن تفرق خدمه وحشمه انذعروا في الجهات‏.‏وهمل جازر من مطبخه كان يعرف بابن هيدور كان شبيهاً له في الصورة فلحق ببني عامر من زغبة‏.‏وكانوا لذلك العهد منحرفين عن الطاعة خوارج على الدولة لما كان السلطان وأبوه قد اختص عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم منذ نزع إليهم عن أبي تاشفين‏.‏فركبوا سنن الخلاف ولبسوا جلدة النفاق وانتبذوا بالقفار‏.‏ورياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر وإخوته‏.‏وعقد السلطان على حربهم لونزمار ابن وليه عريف‏.‏ وكان سيد البدو يومئذ فجمع لهم وشمر لطلبهم‏.‏ وأبعدوا إمامه في المذهب وأوقع بهم مراراً‏.‏ ولحق بهم هذا الجازر وانتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن وأنه أبو عبد الرحمن ابنه النازع عنه فشبه لهم‏.‏ وبايعوه وأجلبوا به على نواحي المدية‏.‏ وبرز إليهم قائدها مجاهد من صنائع الدولة ففضوا جمعه وانهزم أمامهم‏.‏ثم جمع لهم ونزمار وفروا عن تلك النواحي وافترق جمعهم‏.‏ونبذوا إلى ذلك الجازر عهده فلحق ببني يراتن من زواوة ونزل على سيدتهم شمسي فقامت بأمره‏.‏ وحمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته‏.‏وشاع في الناس خبره فمن مصدق ومكذب حتى تبينت حاله ووقفوا على كذبه في انتسابه فنبذوا إليه عهده‏.‏ ولحق بالدواودة أمراء رياح ونزل على سيدهم يعقوب بن علي وانتسب له في مثل ذلك النسب فأجاره إلى أن صدق نسبه‏.‏وأوعز السلطان إلى مولانا السلطان أبي يحيى في شأنه فبعث إلى يعقوب بن علي فيه‏.‏وأرسل إليه زيان بن عمر وزير أبي عبد الرحمن النازع إليهم فكشف لهم عن خبثه فتقبض عليه يعقوب وأشخصه إلى السلطان مع ذويه فلحق به بمكانه من سبتة فامتحنه السلطان وقطعه من خلاف وانحسم داؤه‏.‏ وبقي بالمغرب تحت جراية من الدولة إلى أن هلك

  الخبر عن شأن الجهاد وإغراء السلطان ابنه الأمير أبا مالك واستشهاده

لما فرغ السلطان من أمر عدوه وما تبع ذلك من الأحوال صرف اعتزامه إلى الجهاد لما كان كلفا به‏.‏وكان الطاغية منذ شغل بنو مرين عن الجهاد منذ عهد يوسف بن يعقوب وقد اعتزوا على المسلمين بالعدوة‏.‏ونازلوا معاقلهم وتغلبوا على الكثير منها وارتجعوا الجبل ونازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة ووضعوا عليهم الجزية فتقبلوها وأسفوا إلى التهام المسلمين بالأندلس‏.‏فلما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه وغلب على الأيدي يده وانفسح نطاق ملكه دعته نفسه إلى الجهاد‏.‏وأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور من عمله من الدعوة سنة أربعين بالدخول إلى دار الحرب‏.‏وجهز إليه العساكر من حضرته وأنفذ إليه الوزراء فشخص غازياً في الجحفل وتوغل في بلاد الطاغية واكتسحها وخرج بالسبي والغنائم إلى أدنى صدرة من أرضهم وأناخ بها‏.‏واتصل الخبر بأن النصارى جمعوا له وأغنوا السير في اتباعه‏.‏وأشار عليه الملأ با الخروج عن أرضهم وإجازة الوادي الذي كان تخماً بين أرض الإسلام ودار الحرب‏.‏وأن يسير إلى مدن المسلمين فيمتنع يهاة فلج في إبايته وصمم على التعريس‏.‏وكان قدماً ثبتاً إلا أنه كان غير بصير بالحروب لمكان سنه فصبحتهم عساكر النصرانية في مضاجعهم قبل أن يستركبوا وخالطوهم في أبياتهم‏.‏ وأدرك الأمير أبو مالك قبل أن يستوي على فرسه فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه واحتووا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين ورجعوا على أعقابهم‏.‏واتصل الخبر بالسلطان فتفجع لمهلك ابنه واسترحم له‏.‏ واحتسب عند الله أجره وفي سبيله قتله‏.‏ وشرع في إجازة العساكر للجهاد وتجهيز الأساطيل‏.‏

  الخبر عن واقعة الملند والظفر به

وظهور أساطيل المسلمين على أسطول النصارى لما بلغ الخبرإلى السلطان باستشهاد ابنه أخرج وزراءه إلى السواحل لتجهيز الأساطيل‏.‏وفتح ديوان العطاء واعترض الجنود وأزاح عللهم‏.‏واستنفر أهل المغرب وارتحل إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد‏.‏ وتسامعت النصرانية بذلك فاستعدوا للدفاع‏.‏وأضرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق ليمنع السلطان من الإجازة‏.‏واستحث السلطان أساطيل المسلمين من مرسى العدوة‏.‏وبعث إلى الموحدين بتجيهز أسطولهم إليه فعقدوا عليه لزيد بن فرحون قائد أسطول بجاية من صنائع دولتهم وأوفى سبتة في ستة عشر من أساطيل إفريقية كان فيها من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجاية‏.‏وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز الماية‏.‏ وعقد السلطان عليها لمحمد بن علي العزفي الذي كان صاحب سبتة يوم فتحها وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق‏.‏وقد أكمل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهروا في السلاح‏.‏وتزاحفوا إلى أسطول النصارى وتواقفوا ملياً‏.‏ ثم قربوا الأساطيل بعضها إلى بعض وقرنوها للمصاع ولم يكن إلا كلا ولا حتى هبت ريح النصر وأظفر الله المسلمين بعدوهم وخالطوهم في أساطيلهم‏.‏واستلحموهم قهراً بالسيوف وطعناً بالرماح وألقوا أشلاءهم في اليم‏.‏وقتلوا قائدهم الملند واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة فبرز الناس لمشاهدتها‏.‏ وطيفت بكثير من رؤوسهم في جوانب البلد‏.‏ ونظمت أصفاد الأسارى بدار الإنشاء‏.‏ وعظم الفتح وجلس السلطان للتهنئة وأنشدت الشعراء بين يديه‏.‏وكان يوماً من أغر الأيام‏.‏ والمنة لله سبحانه‏.‏

  الخبر عن واقعة طريف وتمحيص المسلمين

لما ظفر المسلمون بأسطول النصارى وخضدوا شوكتهم عن ممانعة الجواز شرع السلطان فى إجازة العسكر الغزاة من المرتزقين‏.‏وانتظمت الأساطيل بسلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة‏.‏ ولما استكمل إجازة العساكر أجاز هو في أسطوله وخاصته وحشمه آخر سنة أربعين‏.‏ ونزل بساحة طريف وأناخ بعساكره عليها واضطرب معسكره بفنائها وبدأ بمنازلتها‏.‏ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج ابن السلطان أبي الوليد بعسكر الأندلس من غزاة زناتة وحامية الثغور ورجل البدو فعسكروا حذو معسكره وأحاطوا بطريف نطاقاً واحداً وأنزلوا بهم أنواع القتال ونصبوا عليها الآلات‏.‏وجهز الطاغية أسطولا آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن المعسكر وطال ثواهم بمكانهم من حصار البلد ففنيت أزوادهم وافتقدوا العلوفات فوهن الظهر واختلت أحوال لمعسكر‏.‏ واحتشد الطاغية أمم النصرانية وظاهره البرتغال صاحب أشبونة وغرب لأندلس فجاء معه في قومه‏.‏وزحف إليهم لستة أشهرمن نزولهم‏.‏ولما قرب من معسكرهم سرب إلى طريف جيشاً من النصارى أكمنهم بها فدخلوها ليلاً على حين غفلة من العسس الذي أرصد لهم‏.‏وأحسوا بهم آخر ليلتهم فثاروا بهم من مراصدهم‏.‏وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد فقتلوا منهم عدداً ولبسوا على السلطان بأن لم يدخل البلد سواهم حذراً من سطوته‏.‏وزحف الطاغية من الغد في جموعه وعبأ السلطان عساكر المسلمين صفوفاً وتزاحفوا‏.‏ولما نشب الحرب برز الجيش الكمين من البلد وخالفوهم إلى المعسكر وعمدوا إلى فساطيط السلطان‏.‏ودافعهم عنها الناشبة الذين أعدوا لحراستها فاستلحموهم‏.‏ثم دافعهم النساء عن أنفسهن فقتلوهن وخلصوا إلى حظايا السلطان عائشة بنت عمه أبي يحيى بن يعقوب وفاطمة بنت مولانا السلطان أبي يحيى ملك إفريقية وغيرهما من حظاياه فقتلوهن واستلبوهن‏.‏وانتهبوا سائر الفساطيط وأضرموا المعسكر ناراً‏.‏وأحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم فاختل مصافهم وارتدوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم فأحاطوا به وتقبضوا عليه‏.‏وولى السلطان متحيزاً إلى فئة المسلمين‏.‏واستشهد كثير من الغزاة‏.‏ووصل الطاغية إلى فسطاط السلطان من المحلة‏.‏ونكر قتل النساء والولدان ووقف منها بمنتهى أثره وانكفأ راجعاً إلى بلاده‏.‏ولحق ابن الأحمر بغرناطة وخلص السلطان إلى الجزيرة ثم إلى الجبل‏.‏ثم ركب السفين إلى سبتة في ليلته‏.‏ومحص الله المسلمين وأجزل مثوبتهم وأرجأ لهم الكرة على عدوهم‏.‏

  الخبر عن منازلة الطاغية الجزيرة ثم تغلبه عليها

بعد أن غاب علي القلعة من ثغور ابن الأحمر لما رجع الطاغية من واقعة طريف استأسد على المسلمين بالأندلس وطمع في التهامهم وجمع عساكر النصرانية ونزل قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعلى مرحلة منها‏.‏وجمع الآلات والأيدي على حصارها واشتد مخنقها‏.‏ وأصابهم الجهد من العطش فنزلوا على حكمه سنة اثنتين وأربعين‏.‏ وأدال الله الطيب منها بالخبيث وانصرف إلى بلده‏.‏وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعودة إلى الجهاد لرجع الكرة وبعث في الأمصار للاستنفار وأحرج قواده إلى سواحل البحر لتجهيز الأساطيل حتى أكمل له منها عدد‏.‏ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفتها وقدم عسكره إلى العدوة مع وزيره عسكر بن تاحضريت‏.‏وبعث على الجزيرة محمد بن العباس بن تاحضريت من قرابة الوزير وبعث إليها مدداً من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليرنياني من المرشحين للوزارة ببابه‏.‏ وبلغ الطاغية خبره فجهز أسطوله وأجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته‏.‏ وتلاقت الأساطيل فمحص الله المسلمين‏.‏واستشهد منهم أعداد‏.‏ وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق وملكوه دون المسلمين‏.‏وأقبل الطاغية من إشبيلية يجر عساكر النصرانية حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء مرقى أساطيل المسلمين وفرضة المجاز‏.‏ وأمل أن ينظمها في ملكته مع جارتها طريف‏.‏وحشد الفعلة والصناع للآلات وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار‏.‏ واتخذ أهل المعسكر بيوتاً من الخشب للمطاولة‏.‏ وجاء السلطان أبو الحجاج بعساكر الأندلس فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل الفتح في سبيل الممانعة‏.‏ وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة يسرب إليها المدد من الفرسان والمال والزرع في أحايين الغفلة من أساطيلهم وتحت جناح الليل فلم يغنهم ذلك واشتد عليهم الحصار وأصابهم الجهد‏.‏وأجاز إليه السلطان أبو الحجاج يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية بعد أن أذن له الطاغية في الإجازة مكراً به‏.‏وترصدته بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال وخلصوا إلى الساحل بعد عصب الريق فضاقت أحوال هذه الجزيرة ومن كان بها من عساكر السلطان‏.‏ وسألوا من الطاغية الأمان على أن ينزلوا عن البلد فبذله وخرجوا فوفى لهم‏.‏وأجازوا إلى المغرب سنة ثلات وأربعين فأنزلهم السلطان ببلاده خير نزل ولقاهم من المبرة والكرامة ما أعاضهم مما فاتهم أو خلع عليهم وحملهم وأجازهم بما تحدث به الناس‏.‏وتقبض على وزيره عسكر بن تاحضريت عقوبة على تقصيره في المدافعة مع تمكنه منها لما كان لديه من العساكر‏.‏ وانكفأ السلطان إلى حضرته موقناً بظهور أمر الله وإنجاز وعده برجع الكرة وعلو الدين‏.‏ والله متم نوره ولو كره الكافرون‏.‏

  الخير عن شفاعة صاحب تونس في أولاد أبي العلاء

ووصولهم إلى السلطان كان عثمان بن أبي العلاء من أعياص آل عبد الحق شيخ الغزاة المجاهدين من زناتة والبربر بالأندلس‏.‏وكان له فيها مقام معلوم في حماية الثغور ومدافعة العدو وغزو دار الحرب ومساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما نستوفي في أخباره‏.‏وكان السلطان أبو سعيد لما استصرخ به أهل الأندلس اعتنر بمكانه بينهم‏.‏واستشرط عليهم أن يمكنوه من قياده حتى يقضي نوبة الجهاد فلم يسعفوه بذلك‏.‏ولما هلك عثمان بن أبي العلاء قام بأمره من بعده في مراسم الجهاد بنوه وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم أبي ثابت عامر‏.‏وقويت عصابتهم بالأبناء الموالي وعلت على يد السلطان يدهم واستبدوا عليه في أكثر الأحوال واستنكف لها وكان ذلك مما دعاه إلى القدوم على السلطان أبي الحسن‏.‏وارتاب بنو أبي العلاء بإجازته إليه واتهموه على أ انفسهم واستعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره‏.‏فلما تغلب المسلمون عليه وقضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة ما قضى كما ذكرناه واعتزم على القفول إلى حضرته أجمعوا الفتك به في طريقه وداخلوا في ذلك مواليه من المعلوجي لما أسفهم به إرهاف حده والتضيق عليهم في جاهه فبرموا وطووا على النث‏.‏حتى إذا وجدوا من بني أبي العلاء داعية إلى ذلك خفوا إلى إجابتها‏.‏ونذر بهم محمد بن الأحمر فبعث عن السفين يعترضه في طريقه‏.‏وساحل إليه وتسابقوا لشأنهم قبل فوته فأدركوه دون حصن أصطبونة‏.‏وعتبوه فاستعتب ثم أغلظوا في القول وقتلوا مولاه عاصماً صاحب ديوان العطاء تجنياً عليه‏.‏ونكر السلطان ذلك فتناولوه بالرماح طعناً حتى قعصوه‏.‏ورجعوا إلى المعسكر فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي‏.‏وجاءوا بأخيه أبي الحخاج يوسف بن أبي الوليد فبايعوا له وأصفقوا على تقديمه‏.‏وسرح لحينه قائمه ابن عزون فاستولى له على دار ملكه وتم أمره‏.‏وحجبه رضوان مولى أبيهم واستبد عليه وسكن بين جنبيه من بني أبي العلاء وقتلهم لأخيه داء دخيل‏.‏حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد وأجاز المدد إلى ثغور عمله بالأندلس وعقد لابنه الأمير أبي مالك أسر إليهم في شأن بني أبي العلاء ما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط عليهم في مثلها‏.‏ووافق منهم داعية لذلك فتقبض عليهم أبو الحجاج وأودعهم المطبق أجمع‏.‏ثم أشخصهم في السفين إلى مراسي إفريقية فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى‏.‏وبعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه فاعتقلهم‏.‏ثم أوعز إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته فتوقف عنها‏.‏وأبى من إخفار ذمته وتوسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد السلطان فيهم غير ما ظنوا به من الشر‏.‏ورغب في منة السلطان ببعثهم إليه والمبالغة في الشفاعة فيهم علماً بأن شفاعته لا ترد فأجابه إلى ذلك وجنبوهم إليه مع ابن بكرون‏.‏واتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتابة الشفاعة فيهم من السلطان‏.‏وقدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين وأربعين فتلقاهم بالبر والترحيب إكراماً لشفيعهم‏.‏وأنزلهم بمعسكره وجنب لهم القربات بالمراكب الثقيلة وسرب لهم الفساطيط وأسنى لهم الخلع والجوائز وفرض لهم أعلى رتب العطاء وصاروا في جملته‏.‏ولما احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة سعى عنده فيهم بأن كثيراً من المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثب على الملك فتقبض عليهم وأودعهم السجن بمكناسة إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏والله أعلم‏.‏